الحج هو معراج النفس البشرية إلى حيث القرب من الله والانجذاب إليه ، فيكون الحاج الواعي في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر ، وقد جاء في الحديث القدسي : ” أنا جليس من ذكرني . كما جاء في الدعاء والمناجاة : يا جليس الذاكرين . فيتذكّر الحاج ربّه قولاً وعملاً ، لأنه سيكون جليسه الدائم . أوَ رأيتَ كيف تتوق أنفس الحجاج وتتشوق قلوبهم إلى معاودة الحج مرة ثانية وثالثة و حيث أن الله تبارك وتعالى كان قد سقاهم شراباً طهوراً ، فاستفادوا من ذلك الشراب الطهور ، وامتلأت قلوبهم بحب الله ربهم ، وتجلت نفوسهم بذكر الله
واقتراناً بهذه الحالة الرائعة ورد ذكر خاصٌ ومستحبٌ لمن يريد الخروج من الحج ، وهم عائدون عائدون ، تائبون عائدون ، إلى ربنا عائدون . وهذا يعني أن الإنسان حينما يمارس فريضة الحج يعرج بنفسه في معارج الكمال . وقد وصف ربنا سبحانه وتعالى الحج الخالص لوجهه الكريم بقوله ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَوَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ). فالتقوى زادٌ ، وهي ـ بعينها ـ الهدية التي يحملها الحاج من مكة المكرمة إلى سائر البلاد ، وهذا هو المعراج الأول
.
فيا أيها الحاج ؛ إن ذهبت إلى الحج وعدت منه ؛ فقس نفسك وحاسبها محاسبة دقيقة ، لتعرف كم هو مقدار التقوى الذي تزودت به واستفدته من هذه الرحلة الإيمانية والإلهية .
ثانياً : إن إرادتنا التي طالما تخور أمام المشاكل والفتن والشهوات ووساوس الشيطان ، لابد لها ـ الإرادة ـ من أن تأخذ مجرىً آخر لدى مسيرتها في الحياة . ولعل فريضة الحج أعظم فرصة من الممكن استغلالها لتحقيق هذا المطلب الإنساني الرفيع ، حيث نعود من الحج بمعيتنا إرادة إيمانية فولاذية تتحدى المشاكل وتنتصر على وساوس الشيطان . فالله عز وجل قد أمرنا قاطعاً بمحاربة الشيطان واتخاذه عدواً مباشراً ، والله نفسه هو الذي سمى موقع الصلاة بالمحراب ؛ أي ساحة الحرب ومنطقة المعركة التي يحارب المصلي فيها شيطانه ، فإذا عاد الإنسان من الحج ولما يزْددْ عزيمة أو تتضاعف قوة إرادته ، فإن حجه لن ينفعه بالشكل المطلوب
.
وربنا العزيز الحكيم حينما يأمرنا بالحج قائلاً :﴿نُذُورَهُ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوامْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ وهو القائل بعد ذلك : ﴿ ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِفَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ... ﴾ . وتعظيم الحرمات ، يعني احترام الإنسان ما أوجبه الله عليه ؛ فيحترم البيت الحرام ، ويطوف به ، وهو بين هذا وذاك يجتنب الرجس من الأوثان بعزمه وإرادته . . ولا ريب أن الوثن هو الخضوع لغير الله عز وجل ، وأن كل ما لا يتصل بحبل الله فهو وثن تجب محاربته واجتنابه . فإذا عبد ابن آدم صخرة ؛ أصبحت وثناً ، وإذا عبد بقرةً تحولت وثناً ، وإذا خضع لإنسان مثله من دون الله واتخذه ولياً ، صار هذا وثناً أيضاً
.
ولكن الحج كله ؛ بسكناته وحركاته ولفتاته عبادة لله الواحد الأحد ، وهو يساعد الإنسان ليكون حنيفاً لله ، فيتطهر وينقى ويصبح مبيض الوجه والقلب معاً . . وقد قال سبحانه وتعالى :.. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَالْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وهذه هي الحكمة المتعالية من سن فريضة الحج وأدائها .